!صراع الإستراتيجيات- أمريكا وإيران وإسرائيل بعد المعركة

المعركة انتهت، ولكن هل وضعت الحرب أوزارها حقًا؟ تلك الأيام الاثنا عشر ربما كانت كافية لتحديد مسار اشتباك ضمن حدود تكتيكية ضيقة. حجم الدمار والخراب، ومستوى الألم والخوف الذي استوطن النفوس والأجساد، أصبح معيارًا سائدًا لتقييم النصر أو الهزيمة.
لذا، سعى كلا الطرفين جاهدين لإعلان الانتصار الميداني والمادي والتكتيكي، وذلك بعرض مشاهد المباني المُدمرة، والأراضي المحروقة، والأرواح التي أُزهقت. وفي غمرة ذلك، غاب البُعد الإستراتيجي، الذي يمثل جوهر الفصل بين المعركة والحرب؛ فمن يحرز الفوز في البُعد الإستراتيجي، فإنه يحقق الانتصار في الحرب برمتها.
عندما يُعلن الرئيس الأميركي نهاية المعركة من خلف مكتبه، وهو على بُعد آلاف الأميال من أرض المعركة، فإن ذلك يشير إلى أنّه، وبرفقة خبرائه ومستشاريه، قد توصلوا إلى قناعة بأنّ هذه المعركة يجب أن تتوقف، وأنّ المكاسب التكتيكية لن تحل المعضلة الكبرى، ألا وهي مستقبل العالم، والتحديات التي يحملها، والواقع الجديد المتسارع الذي لم تعد الولايات المتحدة قادرة على التحكم في جميع تفاصيله. لقد ولى زمن التفرد والهيمنة، وحلّ مكانه عصرٌ متعدد الأقطاب، تتشابك فيه المصالح والمواقع.
التردد الظاهري، والمتناقض أحيانًا، الذي أظهره الرئيس الأميركي، كان أشبه بلعبة الدمى الروسية، التي تدفع المراقب، سواء كان مركز نفوذ، أو وكالة أنباء، أو حتى متابعًا عاديًا، إلى حالة من الحيرة والشك في إمكانية الوصول إلى استنتاج دقيق وحاسم.
لكن مؤشرات عديدة سبقت هذا القرار، ووجّهت الأنظار نحو تركيز المصالح الأميركية في خيار التوقف وإنهاء المعركة.
فعندما يُصرح وزير الخارجية الأميركي بأن بلاده لا تسعى إلى تغيير النظام في إيران بعد الضربة الجوية، وعندما تُبلغ أميركا إيران بأن الضربة ستكون يتيمة ولن تتبعها ضربات أخرى، وعندما تُؤكد إيران أنها نقلت اليورانيوم المخصّب من موقع فوردو قبل الضربة، وعندما يتجه الرد الإيراني نحو الكيان الغاصب بدلًا من المواقع الأميركية، وعندما تتصاعد التهديدات والمبالغات الكلامية حول نجاح المهمة من كلا الجانبين، فاعلم أنّ هناك تحولًا جوهريًا يلوح في الأفق الإقليمي والدولي، دون المساس بالأوضاع الداخلية لدول الشرق الأوسط قاطبة.
وأنّ ما هو خفي عن الجمهور، وغير مباشر، هو ما سيحدد النتائج، وعالم الأولويات، والتحديات، والتموقع، والوجود، في مشهد إقليمي وعالمي جديد، تُبنَى أسسه على الإستراتيجية، وليس على المواقف التكتيكية. وذلك عبر الأطراف الثلاثة الفاعلة في هذه التحولات الجديدة:
أولًا: الولايات المتحدة: نظرة التجار وعين على إيران وعين على مصالحها
يمكن فهم الموقف الأميركي وتداعياته من خلال أربعة محاور:
1- الحفاظ على ماء الوجه الأميركي، وتقديم الإستراتيجيات على التكتيكات، وذلك من خلال التأكيد المستمر على أن أميركا ومصالحها تأتي أولًا، وأنها لن تدخل حربًا إلا من أجل خدمة مصالحها الخاصة. وطالما أنّ البرنامج النووي الإيراني لا يمس مصالحها بشكل مباشر، فلن تتعرض له بضرر كبير، وتأخيره، بدلًا من إلغائه نهائيًا، لا يزعجها كثيرًا، خصوصًا مع وجود تأكيدات بأن المشروع النووي الإيراني لا يشكل خطرًا، كما أشارت إليه مستشارة الرئيس الأميركي، والتي تراجعت عن تصريحها لاحقًا بعد توبيخ ترامب لها علنًا.
2- لا تسعى أميركا إلى ارتكاب أخطاء في تحديد أولوياتها، أو في تصنيف أعدائها، ولا تريد أن تُدفع قسرًا نحو فهم ضيق للخسارة والربح؛ فالصين تأتي في المقام الأول والأخير، وتمثل لها معركة وجود حقيقية، لما تمثله من تهديد لزعامتها وهيمنتها ومكاسبها الكبيرة، ولما يوفره لها عملتها المهيمنة على الصرف العالمي من قوة.
فالمعركة متعددة الأبعاد، وخاصة في المجالات الصناعية والمعلوماتية، وفي ثورة الذكاء الاصطناعي، ومن يخسر هذه المعركة في أي من هذه المجالات، فإنه سيخسر مستقبله الريادي، ويُقصى من الدخول إلى عالم جديد لم تتضح معالمه بعد.
فعين أميركا شاخصة بالكامل نحو التنين الصيني، الذي يمثل لها الخصم والمنافس الذي قد يطيح بعرشها إلى الأبد. والوقوع في المستنقع الإيراني سهل، لكن الخروج منه صعب، وفيتنام لا تزال حاضرة في الذاكرة الأميركية ومواقفها.
3- مصالح الكيان ليست بالضرورة هي مصالح أميركا، وقد تجلى ذلك في المصالحة مع الحوثيين في اليمن، بهدف وقف استهداف السفن المارة عبر باب المندب، بينما استمر إطلاق الصواريخ اليمنية نحو الكيان. كذلك، تتجلى في الإرادة السياسية للولايات المتحدة لوقف الحرب وإجبار إسرائيل على ذلك، أو هذا ما يبدو. وأميركا أنقذت إسرائيل، كما صرح الرئيس الأميركي!
4- الاستثمار هو وقود التنمية، وأول مظاهره تظهر في سوق الأسهم، سواء بالارتفاع أو الانخفاض، وثقة المستثمرين في الاقتصاد هي المؤشر الدال على مشهد تنموي مزدهر.
وقد راهن الرئيس الأميركي على هذه الثقة، التي مكّنت سوق الأسهم من الارتفاع، وهو ليس على استعداد لفقدانها أو تعريضها للخطر، وهذه الثقة تتلاقى مع رؤية إستراتيجية ثابتة تقوم على رباعية الاستثمار والإنتاج والاستهلاك والتصدير.
ثانيًا: إيران والإستراتيجي "المنشود أم المغشوش" ولو على حساب الأثمان الباهظة؟
لقد خسرت إيران الكثير في العام الماضي مما بنته طوال سنوات من خلال ما يسمى بـ "الهلال الشيعي"، ولا شك أن هذه خسارة فادحة. الأهم من ذلك هو فقدانها لعمقها الإسلامي "السني الشعبي"، الذي اكتسبته في أعقاب ثورتها الإسلامية عام 1979، واستمر معها حتى في حربها ضد العراق.
كانت أخطائها القاتلة في معركتها الأم في سوريا بمثابة نذير لخسارة كبرى، نتيجة لسوء التقدير والخلط الواضح والمتسرع بين التكتيكي والإستراتيجي. "هلال شيعي" ممتد، نعم، ولكن بدون إستراتيجية لبناء واقع جديد يراعي كلا البُعدين التاريخي والجغرافي، وعلى نار هادئة.
إن دخولها اليوم في مواجهة مفروضة مع الكيان يضعها في موقف جديد، قد يمحو نسبيًا ما مضى، ويؤسس لواقع جديد آخر غير واضح المعالم تمامًا.
فدخولها في مواجهة مباشرة مع الكيان، وقصفها لمواقعه، حتى ظهرت بعض الصور المشابهة لخراب غزة، أعاد لها، ولو بخطى بطيئة، الكثير من هذا المد السني الشعبي. ودخول أميركا على الخط في مواجهة مباشرة معها حسَّن الصورة بلا شك، ولكن هل هو التكتيك وإلزاماته ونهاية معركته، أم الإستراتيجيات وحربها الصامتة والمفتوحة؟
المشروع الإيراني النووي لم يُدفن ولم ينتهِ، وحتى إن تأخر لشهور أو سنوات، فإن الإرادة السياسية والقوة المعرفية والعلمية لم تتقلص بوجود آلاف المهندسين والعلماء.
وهذا البُعد يبني الإستراتيجي بلا شك، ولكن هل هو إستراتيجي عسكري فقط؟ الإستراتيجيات هي بناء متكامل ذو أبعاد متعددة تمس كل جوانب الوجود الإنساني، في أبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وحتى النفسية.
النظام السياسي ما زال قائمًا ولم يسقط، بل إن وزير الخارجية الأميركي، كما ذكرنا سابقًا، طمأن حكام طهران بأن ضرباتهم الجوية لا تهدف إلى تغيير النظام، ولكن إلى برنامجهم النووي.
فهل يعي النظام الإيراني سلم أولوياته، والتي هي عبارة عن مزيج بين المطالب الشعبية بالعيش بكرامة ورفاهية، والدافع الأمني الذي تؤكده قوتها المعرفية والعلمية في الصناعات العسكرية، وخاصة في مجالي الصواريخ والطائرات المسيرة، ودخولها المبكر إلى عالم الذكاء الاصطناعي، وهو الأمر المهم والمحدد في عالم المستقبل من حيث الريادة والقوة، وهو بُعد إستراتيجي بلا شك، ولكن يجب ألا يُبنى خارج إطار المطالب الشعبية.
ثالثًا: إسرائيل: التكتيك المفروض والإستراتيجيات المفقودة أو المنحرفة
حين يكون مصير فرد أهم من مصير شعب بأكمله، وعندما تصبح الحرب ملاذًا لبقاء هذا الفرد في منصبه السياسي، وعندما تتوحش الأحزاب الحاكمة والحكومة، ويتوحش السياسي وجيشه، ويصبح عنوانًا لإبادة شعب وتجويعه، وقتل أطفاله ونسائه، وتخريب بيوته وهدم مدنه، فاعلم أنك أمام خسارة إستراتيجية فادحة، تُدفع الأموال الطائلة لكسبها:
- خسرت إسرائيل موقع الضحية الذي بنت عليه كل علاقاتها الدولية ونفوذها، وحتى وجودها!
- خسرت قلوب وعقول الكثير من أفراد الشعوب الغربية، ومواقفهم الداعمة والمؤيدة لها.
- فقد شعبها ثقته في وجوده على "أرض الميعاد"، وأصبح شبح النهاية يلاحق السياسيين أنفسهم؛ انظر إلى تصريح رئيس الوزراء السابق باراك في هذا الشأن، وعقدة الثمانين عامًا من عمر الدولة.
- تدهورت العلاقة المرتبطة والمتلازمة بين مصالحها ومصالح الولايات المتحدة، وبدأ هذا التمايز الجديد يظهر للعلن، ولو بخطى بطيئة أو غير مباشرة، ويتجلى ذلك، كما أشرنا سابقًا، في حربها المتواصلة مع الحوثيين، في حين توقفت الحرب مع الولايات المتحدة. وكذلك، في تلكؤ القرار الأميركي بعض الشيء في دخول المعركة، ثم تأكيده على أنه لا يعنيه سقوط النظام في طهران، وأن ضربته الجوية ستكون يتيمة، وأنه سمح بنقل اليورانيوم المخصب خارج موقع فوردو قبل الضربة، وأخيرًا في الأمر الصارم الصادر عن البيت الأبيض بإنهاء الحرب، مما يعني عدم تبني الولايات المتحدة لمعركة كبرى مع طهران، كان الكيان يتمناها ويسعى إليها، وخاصة إسقاط النظام الإيراني ومنظومته الحاكمة.
- فقد الكيان لدى الرأي العام العالمي صورته كدولة ديمقراطية وحيدة في صحراء الاستبداد والديكتاتورية المحيطة بها، وسقطت ورقة التوت عن حقيقة مخفية طوال عقود؛ فلا ديمقراطية ولا حقوق إنسان، بل استبداد داخلي، وسطوة للساسة في مواجهة القضاء، وتجاوز للخطوط الحمراء في العلاقة بين المواطن والمؤسسة القضائية واستقلاليتها، والفصل بين السلطات، وهي بلا شك دعائم الدولة الديمقراطية. كما تجلى للجميع مدى تهور وتجاوزات القيادة السياسية لقرارات محكمة لاهاي، واعتبارها ورئيسها منبوذين ولا اعتبار لهم!
- لم تحسم دولة الكيان حربها الهمجية في غزة، ورغم وحشيتها المتواصلة في القتل والهدم والترويع والتجويع، فإنها لم تنتصر في المعركة، وأصبحت أسيرة عمليات نوعية يومية تقتل وتجرح وتروع جنودها، حرب استنزاف باهظة الثمن فتحت عليها أبواب جهنم. فلا التكتيك حقق النصر، ولا الإستراتيجية نجحت إن وجدت. فهذه الحرب المفتوحة، ورفع سقفها على أنها حرب وجود، بررت وسائل التدمير والإبادة من أجل غاية مبهمة تريدها إستراتيجية البقاء، وهي في الحقيقة إستراتيجية الفناء.
كما أن هذه الحرب المتوحشة، التي تفتقر إلى أبسط معاني الإنسانية والأخلاق والقيم، والتي لم يشهد العالم مثيلًا لها منذ الحرب العالمية الثانية، جعلت منها في نظر الرأي العام العالمي دولة معتدية، وأخافت الكثيرين من استعراض القوة المرعب للجميع، وتعيد قراءة المشهد العالمي وفق رؤية جديدة تحددها مواقع النفوذ ومراكز القوة وموازينها. [الناتو (NATO) يرفع الإنفاق الدفاعي العسكري إلى 5 بالمائة من الناتج المحلي].
ختامًا: نحو بديل حضاري منشود؟
لقد أحدثت أحداث السابع من أكتوبر زلزالًا في المستوى الإستراتيجي للفعل السياسي والمواقف والمقاربات، وفي مستوى العلاقات الدولية والتمركز الإقليمي، وفتحت الباب نحو عالم جديد لم تتضح معالمه بعد، ولكن بوصلته بدأت في التوجه.
لقد كانت الهزيمة الكبرى لمشروع القيم والمبادئ وحقوق الإنسان، الذي طالما كان يمثل عنصر الفخر والاعتزاز بمنوال التقدم والازدهار، زلزالًا حطم ما سبق، ولوث ما يجري، وعقم المستقبل.
وجاءت معركة الأيام الاثني عشر الإيرانية الإسرائيلية بنتائجها، لتؤكد فشل التكتيك، مهما كثرت دماؤه وخرابه، وتغييب الإستراتيجي أو تهميشه أو انحرافه، ليشكل كل ذلك في الحقيقة دافعًا لبناء البديل الحضاري الجديد والمنشود، بترانيم جديدة، ولغة جديدة، وخطاب جديد، ومنهج ومنوال جديدين، والذي لن يكون صالحًا وسليمًا إلا عبر جوهرية واضحة وجلية للبعد الأخلاقي والقيمي، وجوهرية الإنسان أينما اتجهت به سفينته، وأن يقطع مع نموذج غيب الأخلاق والقيم، وجلب للإنسانية الكثير من الدمار في عالم يسوده التوحش والقتل والهيمنة والترويع.